
- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
بين وعود الديمقراطية وإخفاقات النظام الانتخابي المتكررة في العراق

رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على سقوط نظام صدام حسين، لا يزال العراق يعاني من أزمة عميقة في ممارسة الديمقراطية.
فالانتخابات، التي يُفترض أن تكون وسيلة سلمية لتجديد الشرعية السياسية وبناء الدولة وتمثيل إرادة الناخبين، تحولت في العراق إلى مجرد واجهة تُستخدم لتكريس النفوذ، وتبادل المواقع داخل منظومة حاكمة تتسم بالفساد. ومن الجدير بالذكر أن الديمقراطية ليست مجرد آلية لاختيار القادة، بل لا بد أن تُرافقها قيم راسخة ومؤسسات فعالة تحمي تلك القيم لضمان فعاليتها.
إخفاقات العملية الانتخابية في العراق
يفتقر العراق إلى الآليات الأساسية اللازمة لإجراء انتخابات حرّة ونزيهة، وفي مقدمتها عجز الدولة عن كبح جماح الجماعات شبه العسكرية ومنعها من استخدام القوة. ويشكّل انتشار الأسلحة في العراق تهديداً مباشراً للناخبين، ولجان الانتخابات، والمرشحين، ويُستخدم خلال موسم الانتخابات كأداةٍ للضغط السياسي. في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في العراق عام 2021، فازت الكتلة الصدرية التابعة للزعيم الشيعي الشعبي مقتدى الصدر بأغلبية المقاعد البرلمانية، لكنها لم تتمكن من تشكيل حكومة ائتلافية بسبب الضغوط التي مارستها الفصائل المسلحة التابعة لـ"الإطار التنسيقي الشيعي" المدعوم من إيران. وفي خطوة غير مسبوقة، حاول الصدريون تشكيل حكومة من دون "الإطار التنسيقي الشيعي "، من خلال السعي إلى إقامة ائتلاف أغلبية مع السُّنة والأكراد، بدلاً من ائتلاف توافقي يشمل الإطار. وقد أسفرت هذه الجهود عن اندلاع اشتباكات مسلحة بين الإطار التنسيقي والأحزاب الصدرية داخل المنطقة الخضراء في بغداد، أدت إلى مقتل عشرات الشبان.
إن الحديث عن انتخابات "مكتملة الأركان" في العراق يبدو حتى الآن بعيد المنال، لأسباب عديدة، أهمها غياب البيئة الآمنة والنزيهة التي تسمح للناخبين بالإدلاء بأصواتهم بحرّية، وتتيح للقوى الجديدة التنافس العادل دون الخضوع لابتزاز السلاح أو هيمنة المال.
لا يزال السلاح المنفلت يتصدر المشهد السياسي في العراق، ليس فقط كأداة تهديد مباشر للناخبين والمفوضية والمرشحين، بل أيضًا كوسيلة ضغط تُستخدم لترجيح كفة قوى معينة على حساب أخرى. كانت تجربة ما بعد انتخابات 2021 خير دليل على ذلك؛ فقد فازت كتلة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر (الكتلة الصدرية) بأغلبية واضحة تمثّلت بـ 73 نائباً تحت قبة البرلمان، لكنها لم تتمكن من تشكيل الحكومة، بسبب ضغوط القوى المسلحة التابعة لـ"الإطار التنسيقي الشيعي" المدعوم من قبل ايران، والتي لجأت إلى تعطيل العملية السياسية من خلال ما أُطلق عليه آنذاك "الثلث المعطّل" وصولاً إلى الاقتتال الشيعي- الشيعي في شوارع بغداد وعلى أعتاب المنطقة الخضراء، معقل القرار السياسي والحكومي في العراق.
يلعب المال الذي يتم ضخه في الحملات الانتخابية دوراً لا يقل خطورة في العراق. ففي عام 2021، قضت المحكمة العليا بعدم فرض أي قيود على التبرعات المقدمة للحملات الانتخابية. وعليه، يستغل السياسيون من مختلف الأطياف مواردهم المالية لشراء الأصوات، وربط المستقبل الاقتصادي لدوائرهم الانتخابية بفوزهم السياسي. وقد أصبح الخطاب السياسي مشبعاً ببرامج انتخابية شعبوية لا تعكس واقع المواطنين، ولا تقدم حلولاً حقيقية لمشكلاتهم. ويطغى هذا الخطاب، في الوقت نفسه، على الأصوات الإصلاحية التي تسعى إلى تغيير الوضع السياسي القائم.
علاوة على ذلك، يتم تهميش الإصلاحيون في المشهد السياسي العراقي، لعدم قدرتهم على منافسة نظام المحسوبية الذي يُوفّر مقومات البقاء للأحزاب الكبرى، وبالتالي يُحرمون من التمويل والدعم. في نهاية المطاف، يدفع هذا الواقع بالكثير من الإصلاحيين العراقيين إلى العزوف عن العمل السياسي.
علاوة على ذلك، تُحكم الأحزاب ذاتها التي تمارس المحسوبية على مستوى القواعد الشعبية، قبضتها على الوزارات والمؤسسات الحكومية، مما يمكّنها من التحكم في موارد الدولة وتسخيرها لخدمة مصالحها الخاصة. وفي غياب الرقابة الفعالة أو المساءلة الحقيقية، يصبح من السهل جداً وصول أموال الحكومة إلى الدعاية الانتخابيةأو تخصيصها لتمرير أجندات سياسية داخل النظام السياسي العراقي بأكمله.
على المستوى الشعبي، لم يتمكن العراقيون من تحقيق انتقال سلمي للسلطة سواء من خلال صناديق الاقتراع أو حتى عندما اضطروا إلى النزول إلى الشوارع بأعداد كبيرة.ولم تكن استقالة رئيس الوزراء السابق، عادل عبد المهدي، في عام 2019 نتيجة لآلية دستورية أو استجابة حقيقية لمطالب احتجاجات أكتوبر. ولم يغادر عبد المهدي منصبه إلا بعد أن أصدر أعلى سلطة دينية في العراق، في النجف، آية الله علي السيستاني، بياناً سياسياً نادراً، قال فيه: "إن البرلمان الذي أنشأ الحكومة الحالية مدعو إلى إعادة النظر في خياراته في هذا الصدد، والتصرف بما تمليه مصلحة العراق، والحفاظ على دماء أبنائه، وتجنب الانزلاق إلى دوامة العنف والفوضى والدمار".
في غضون ذلك، كان بإمكان الأحزاب الإصلاحية المتبقية اقتناص الفرصة وتقديم نفسها كبديل مقنعٍ من خلال الاستفادة من الغضب الشعبي وتراجع ثقة الشارع في الأحزاب التقليدية. لكن العكس هو ما حدث؛ فقد فشلت معظم الأحزاب السياسية الجديدة التي دخلت البرلمان بعد احتجاجات أكتوبر 2019 في تقديم نموذجٍ مختلف للسياسة في العراق. وسرعان ما انخرط بعض نوابها في تحالفات مع نفس الأحزاب التي كانوا ينتقدونها، مما قوض خطابهم الرنان .بل إن عدداً أكبر منهم فشل في تحديد نهجه تجاه النظام السياسي: هل كانت برامجهم تمثل خروجاً حقيقياً عن السياسة المعتادة في العراق، أم أنها كانت تهدف إلى إعادة إنتاج الوضع الراهن مع تعديلات طفيفة؟ وبدون الخوض في تفسير تلك المسألة الأساسية، شهدت الأحزاب الجديدة تراجعاً ملحوظاً في شعبيتها، وزيادة في الإحباط، وتجدد القناعة الشعبية بعدم وجود فرق بين الأحزاب الجديدة والقديمة.
أزمة المشاركة الشعبية
في ضوء هذه الإخفاقات الواضحة للنظام الانتخابي العراقي، يظهر العراقيون عدم ثقتهم في العملية الانتخابية في بلادهم من خلال انخفاض معدلات المشاركة. ومع كل دورة انتخابية، سجلت المفوضية العليا للانتخابات أرقاماً ثابتة أقل من 41 %، مع انخفاض المشاركة إلى أقل من 30% في بعض المحافظات. وحتى هذه النسبة لا تشمل سوى حاملي بطاقات الانتخاب الصالحة - وليس إجمالي عدد الناخبين المؤهلين للتصويت. وعليه، فإن معدلات مشاركة جميع الناخبين العراقيين المحتملين أقل بكثير من التقديرات الرسمية.
يُبرز تراجع نسبة المشاركة في العملية الانتخابية إحباط المواطنين من الخيارات السياسية، نتيجة الدور المسيطر للجهات المسلحة الحكومية وغير الحكومية، وتغلغل الأموال غير المنظمة في السياسة العراقية. فالمواطنون الذين يشهدون مراراً وتكراراً أن أصواتهم لا تؤثر في النتائج، لا سيما حين تُحسم الانتخابات لصالح أصحاب السلاح والمال والنفوذ الخارجي، يفقدون تدريجياً ثقتهم في هذه العملية الديمقراطية المفرغة من مضمونها. إن ما تحتاجه الساحة السياسية العراقية فعلاً هو ظهور قيادات مستقلة قادرة على طرح بديل حقيقي وقابل للتطبيق يكسر هذا الواقع المأزوم. وبدون هؤلاء القادة، سيبقى المواطنون العراقيون متشككين في نظامهم السياسي.
الديمقراطية، في جوهرها، ليست مجرد صناديق اقتراع.
فمن الضروري أن تكون مصحوبة بتبادل حر للأفكار، ونظام قوانين متكامل، وانتقال سلمي للسلطة، واحترام إرادة الشعب.
وفي العراق، العديد من هذه العناصر غائبة، مما يجعل العملية الانتخابية ممارسة شكلية لا تعكس جوهر الديمقراطية.
ويزداد هذا الأمر وضوحاً من خلال العديد من القرارات السياسية التي تُتخذ خارج جدران البرلمان وخارج آليات التصويت في البلاد .وهذا يجعل العملية الانتخابية مجرد ختم مطاطي لإضفاء الشرعية على ما تم الاتفاق عليه بالفعل وراء الكواليس.
الإصلاح من الداخل أم التدخل من الخارج؟
ليس هناك شك في أن الديمقراطية هي الطريقة الأكثر أماناً وفعالية لإحداث التغيير والإصلاح بطريقة تضمن حقوق جميع المواطنين. ومع ذلك، من المهم لفت الانتباه إلى جوهر هذا النظام السياسي. فالطبقة السياسية التي تدير العراق منذ عام 2003 قد رسخت مكانتها نتيجة للتدخلات الأجنبية، ولا تزال تستمد جزءاً من شرعيتها ودعمها من الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية. وبالتالي، قوبلت محاولات الإصلاح الجذري من داخل النظام بمقاومة شديدة، لأن تلك القوى الخارجية ستعمل بكل الوسائل للحفاظ على نفوذها.
تأتي إيران في مقدمة هذه القوى الأجنبية، حيث باتت تعتمد بشكل متزايد على وكلائها الإقليميين في العراق، خاصة بعد التراجع الحاد الذي شهدته شبكة حلفائها الإقليميين خلال العام الماضي، والذي تمثل في سقوط نظام الأسد في سوريا، وتدمير قدرات "حزب الله" في لبنان، وإضعاف "حماس" في غزة إضعافاً شديداً. وبالتالي، فإن دعم طهران للميليشيات العراقية يُعد حيوياً للأمن القومي والمصالح الاستراتيجية الإيرانية، لا سيما في سياق استئناف المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران .ونظراً للأهمية المتزايدة التي توليها طهران للميليشيات العراقية، يعتقد البعض أن العراق لن يتمكن من إصلاح نظامه السياسي من خلال الضغوط الداخلية وحدها. وعلى هذا الأساس، فإن التدخل الخارجي قد يكون السبيل الوحيد لدفع النظام السياسي العراقي نحو الإصلاح، أو على الأقل إرغامه على تقديم تنازلات تمهّد الطريق لانتقال ديمقراطي حقيقي.
يظل مستقبل الديمقراطية في العراق مرهوناً بإرادة سياسية صادقة لإصلاح العملية الانتخابية من جذورها. ولمعالجة الإخفاقات المتكررة في العملية الانتخابية في العراق، لا بد من تبنّي إصلاحات جذرية تبدأ بضبط السلاح المنفلت وإنهاء هيمنة الميليشيات المسلحة على القرار السياسي، ومن ثم، توفير بيئة آمنة وحيادية تسمح بمشاركة حقيقية للناخبين والمرشحين. كما يجب مراقبة المال السياسي ووضع تشريعات صارمة للحد من تمويل الحملات بطرق غير مشروعة، ومحاسبة المتورطين في شراء الأصوات أو التأثير على الناخبين. من الضروري أيضاً تحييد موارد الدولة وعدم استخدامها لأغراض انتخابية من قبل الأحزاب المتنفذة، إلى جانب ضمان استقلالية المفوضية العليا للانتخابات على النحو المنصوص عليه في الدستور العراقي.
كما ينبغي دعم القوى الإصلاحية وإتاحة فرص متكافئة لها في الإعلام والتمويل، بالتوازي مع نشر الوعي الانتخابي لتعزيز ثقافة المشاركة لدى المواطنين، خاصة الشباب. وأخيراً، لا بد من الالتزام بالتداول السلمي للسلطة واحترام نتائج الانتخابات، وان يكون هناك قضاء مستقل يعمل على تفسير الدستور وفقاً لسيادة القانون. وبدون ذلك، ستبقى الانتخابات مجرد طقس سياسي متكرر، يُستخدم لتجديد الشرعية الزائفة، إذ أن الديمقراطية ليست مجرد وسيلة للسلطة، بل عقد اجتماعي قائم على احترام الإرادة الشعبية، وتكافؤ الفرص، والمساءلة، وهي أمور لا تزال غائبة عن المشهد السياسي العراقي.